فصل: باب إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أَوْ تَصَاوِيرَ هَلْ تَفْسُدُ صَلاتُهُ وَمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


الجزء الثانى

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الصَّلاةِ

كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلاةُ فِي الإسْرَاءِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ، فَقَالَ‏:‏ يَأْمُرُنَا- يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم- بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ‏.‏

- فيه‏:‏ أنس قَالَ‏:‏ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فلما جئت إلى السماء الدنيا‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث، وذكر حديث الإسراء‏.‏

قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ‏:‏ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، قُلْتُ‏:‏ وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ‏:‏ رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ‏:‏ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عائشة قالت‏:‏ ‏(‏فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلاةِ الْحَضَرِ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان فى الإسراء، واختلفوا فى تاريخ الإسراء، فقال الذهبى فى تاريخه‏:‏ أسرى برسول الله بعد مبعثه بثمانية عشر شهرًا‏.‏

وقال أبو إسحاق الحربى‏:‏ أُسرى بالنبى ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وفرضت الصلاة عليه‏.‏

وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب‏:‏ إن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة، وروى يونس ابن بكير، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصى، عن ابن شهاب‏:‏ أن الصلاة فرضت بمكة بعد ما أوحى إليه بخمس سنين‏.‏

فعلى قول موسى بن عقبة إذا كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، فهو بعد مبثعه بتسع سنين، أو باثنتى عشرة سنة على اختلافهم فى مقامه بمكة بعد مبعثه، وقول الزهرى أولى من قول الذهبى؛ لأن ابن إسحاق قال‏:‏ أسرى برسول الله وقد فشا الإسلام بمكة، وفى القبائل كلها، ورواية الوقاصى أولى من رواية موسى بن عقبة؛ لأنهم لا يختلفون أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة عليه، وتوفيت قبل الهجرة بأعوام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن جبريل أتى الرسول حين فرضت الصلاة عليه فى الإسراء، فهمز له بعقبه فى ناحية من الوادى فانفجرت عين ماء مزن، فتوضأ جبريل ومحمد ينظر، فرجع رسول الله، وقد أقرّ الله عينه، فأخذ بيد خديجة، ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل، فهذا يدل أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قيل‏:‏ إنها توفيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل‏:‏ بثلاث‏.‏

وأما قول ابن إسحاق أن جبريل نزل عليه بالوضوء، فإنما أخذه، والله أعلم، من حديث زيد بن حارثة، رواه عقيل عن ابن شهاب، عن عروة، عن أسامة بن زيد، عن أبيه‏:‏ ‏(‏أن النبى فى أول ما أوحى إليه أتاه جبريل فَعَلَّمَهُ الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح فرجه‏)‏‏.‏

وقال نافع بن جبير‏:‏ ‏(‏أصبح النبى ليلة الإسراء، فنزل عليه جبريل حين زاغت الشمس، فصلى به، ولذلك سميت‏:‏ الأولى، وقال جماعة من العلماء‏:‏ لم يكن على الرسول صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أُمِرَ به من قيام الليل من غير تحديد ركعات معلومات، ولا وقت محصور، فكان يقوم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه، وقامه المسلمون معه نحوًا من حولٍ حتى شق عليهم، فأنزل الله التخفيف عنهم ونسخه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏(‏يا أيها المزمل‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1‏]‏، كانوا يقومون نحوًا من قيامهم فى رمضان، حتى نزل آخرها، وكان بَيْن أولها وآخرها حول‏.‏

وفى حديث الإسراء إعلام فرض الصلاة كيف كان، وتقدم‏.‏

وإجماع الأمة على عدد فرض الصلاة وأنها خمس صلوات وعددها وركوعها وسجودها غير أبى حنيفة، فإنه شَذَّ وزاد أن الوتر فرض وليس ذلك فى حديث الإسراء، فأدخل البخارى حديث عائشة فى هذا الباب ليبينَ أن فرض الصلاة كان ركعتين ركعتين، وإن كان السلف قد اختلفوا فى ذلك، فروى عن ابن عباس، ونافع بن جبير ابن مطعم، والحسن البصرى، وابن جريج‏:‏ أن الصلاة فرضت فى الحضر أربعًا وفى السفر ركعتين، وأن جبريل نزل صبيحة ليلة الإسراء، فأقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والعشاء أربعًا‏.‏

وقال ميمون بن مهران، والشعبى، وابن إسحاق، وجمهور العلماء‏:‏ بظاهر حديث عائشة أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فى الحضر والسفر، على أن عائشة قد أفتت بخلاف هذا الحديث، فكانت تُتِمُّ فى السفر، وقد قال بعض من أنكر حديث عائشة‏:‏ أنه معارض لكتاب الله عز وجل وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، وهذا يدل أن صلاة السفر كانت كاملة؛ لأنه لا يجوز أن يؤمروا بالقصر إلا من شىءٍ تامٍّ قبل القصر، قال‏:‏ ويدل على هذا ما رواه قتادة، عن سليمان اليشكرى أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة فى الخوف أى يوم أنزل، وأين هو‏؟‏ قال‏:‏ انطلقنا نتلقَّى عير قريش من الشام حتى إذا كنا بنخل، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد، تخافنى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏‏؟‏، قال‏:‏ فمن يمنعك منى، قال‏:‏ ‏(‏الله‏)‏ قال‏:‏ فسل السيف فتهدده القوم وأوعدوه، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، وأخذ السلاح، ونودى بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم ركعتين، وطائفة من القوم يحرسونهم، ثم جاء الآخرون، فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، فكان للنبى صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان، فيومئذ أنزل الله صلاة الخوف‏)‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه لا تعارض بين حديث عائشة وبين كتاب الله، تعالى، وذلك أنه يجوز أن يكون فرض الصلاة كان ركعتين ركعتين فى الحضر والسفر كما قالت عائشة، فلما زيد فى صلاة الحضر، قيل لهم‏:‏ إذا ضربتم فى الأرض، فصلوا ركعتين مثل الفريضة الأولى، ولا جناح عليكم فى ذلك، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى حديث عائشة؛ روى داود بن أبى هند عن الشعبى، عن عائشة، قالت‏:‏ ‏(‏أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها غير المغرب؛ فإنها وتر صلاة النهار، وصلاة الصبح؛ لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى‏)‏، رواه معمر عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم هاجر النبى صلى الله عليه وسلم، ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الأولى‏)‏، ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ هذا المعنى للطحاوى بل هو فى كتاب البخارى الذى شرحته بهذا الكتاب فى باب‏:‏ التأريخ بعد الهجرة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، بعد إتمام الصلاة فى الحضر، قلت‏:‏ فما معنى ذكر الجناح فى ذلك‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ المعنى فى ذلك، والله أعلم، أن الله تعالى، ذكر قصة الصلاة فى حال الخوف وسنَّ النبى صلى الله عليه وسلم من الرخصة فى هيئتها صفةً مفارقةً لجميع صلوات حال الأمن، فوضع الله الجناح عن عباده فى قصر عددها وتغيير هيئتها، وجعل القصر فى السفر رفقًا بعباده وتخفيفًا عنهم كما قال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ليعلى بن أمية حين قال له‏:‏ ما لنا نقصر وقد أَمنَّا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تلك صدقة تصدق الله عليكم، فاقبلوا صدقته‏)‏، فدل إتمام عائشة فى السفر أن القصر ليس بمعنى الحتم ولا إلزام للمسافر، إذ لو كان كذلك لم يجز أن تتم فى السفر، وإنما أتمت لأنها فهمت المعنى فى ذلك من النبى صلى الله عليه وسلم، ويشهد لصحة تأويلها فى ذلك قول عمر ابن الخطاب، رضى الله عنه، تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته‏.‏

وقد أجمعت الأمة أنه لا يلزم المتصدق عليه قبول الصدقة فرضًا وسأزيد فى هذا الباب بيانًا فى أبواب قصر الصلاة فى السفر، إن شاء الله تعالى‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وأما حديث قتادة عن سليمان اليشكرى فهو ضعيف؛ لأن قتادة لم يسمع منه شيئًا، وسمعت على بن المدينى يقول‏:‏ مات سليمان اليشكرى قبل جابر ابن عبد الله، وإنما كانت صحيفة، فكان قتادة وغيره يحدثون بما وجدوا فيها‏.‏

وقد روى عن جابر خلاف حديث سليمان اليشكرى، روى شعبة عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر قال‏:‏ ‏(‏صلينا مع النبى صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فركع بالصف المقدم ركعة وسجد سجدتين، ثم تأخروا وتقدم الآخرون فركع بهم ركعة واحدة‏)‏، فهذا معارض لحديث اليشكرى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله فى حديث الإسراء‏:‏ ‏(‏ففرج صدرى، ثم غسله، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه فى صدرى‏)‏‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ أن أمور الله تعالى، المعظمة لا بأس بتحليتها واستعمال الذهب والفضة فيها بخلاف سائر أمور الدنيا التى نهى عن استعمال الذهب والفضة فيها من أجل السرف، ألا ترى أنه أبيح تحلية المصحف الذى فيه كلام الله عز وجل كما جاءه جبريل بالحكمة والإيمان من عند الله عز وجل من طست من ذهب، وذكر أبو عبيد فى كتاب فضائل القرآن، باب‏:‏ تزيين المصاحف وحليتها بالذهب والفضة، وقال الأعمش‏:‏ عن أبى وائل‏:‏ كان ابن مسعود إذا مُرَّ عليه بمصحف وقد زين بالذهب، قال‏:‏ ‏(‏إن أحسن ما زُيِّنَ به المصحف تلاوته‏)‏‏.‏

وعن ابن عباس أنه كان إذا رأى المصحف قد فُضِّضَ أو أذهب قال‏:‏ ‏(‏تُغْرُون به السارق، وزينته فى جوفه‏)‏، وأجاز ابن سيرين تزيين المصحف وتحليته، وكذلك أبيح حلية السيف الذى هو من أمر الله تعالى، وسلطانه على من كفر به، والخاتم الذى يطبع به عهود الله، وعهود رسله النافذة إلى أقطار الأرض بالدين، وما سوى ذلك من متاع الدنيا فممنوع من التحلية غير حُلِىِّ النساء والمباح لهن ليتزين به للرجال‏.‏

وفيه‏:‏ أن أرواح المؤمنين يُصعد بها إلى السماء؛ ألا ترى أنه وجد آدم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء فى السماء‏.‏

وقوله فى آدم‏:‏ ‏(‏عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى‏)‏، فيه دليل على أن أعمال بنى آدم الصالحة تَسُرُّ أباهم آدم، عليه السلام، وأن أعمالهم السيئة تسوءه وتحزنه‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أنه يجب أن يرحبَ بكل أحد من الناس فى حسن لقائه بأكرم المنازل وأقرب القرابة؛ ألا ترى أنه لما كان محمد من ذريته قال‏:‏ مرحبًا بالابن الصالح، ومن كان من غير ذريته قال له‏:‏ مرحبًا بالأخ الصالح، فكذلك يحب أن يُلاقى المرءُ بأحسن صفاته وأعمها بجميل الثناء عليه؛ ألا ترى أن كلهم قال له‏:‏ ‏(‏الصالح‏)‏ لشمول الصلاح على سائر الخلال الممدوحة من الصدق، والأمانة، والعفاف، والصلة، والفضل ولم يقل أحد‏:‏ مرحبًا بالنبى الصادق الأمين وما شاكله؛ لشمول الصلاح وعمومه لسائر خلال الخير‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن أوامر الله تعالى، تكتب بأقلام شتَّى؛ لقوله‏:‏ ‏(‏أسمع صريف الأقلام‏)‏، ففى هذا أن العلم ينبغى أن يكتب بأقلام كثيرة، تلك سنة فى سماواته، فكيف فى أرضه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا يبدل القول لدى‏)‏، يعنى‏:‏ ما قضاه وأحكمه من آثار معلومة، وآجال مكتوبة، وأرزاق معدودة، وشبه ذلك مما لا يبدل لديه، وأما ما نسخه تعالى رفقًا بعباده، فهو الذى قال فيه تعالى‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وفيه‏:‏ جواز النسخ قبل الفعل؛ ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين صلاة قبل أن تُصلى بخمس صلوات تخفيفًا عن عباده، ثم تفضل عليهم بأن جعل ثواب الخمس صلوات كثواب الخمسين، أو جعل الحسنة عشرًا‏.‏

وفيه‏:‏ جواز الاستشفاع والمراجعة فى الشفاعة مرة بعد أخرى‏.‏

وفيه‏:‏ الاستحياء من التكثير فى الحوائج، خشية الضعف عن القيام بشكرها‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن الجنة فى السماء‏.‏

وفيه‏:‏ ‏(‏ودخلت الجنة فإذا فيها جبايل اللؤلؤ‏)‏، هو تصحيف، والله أعلم، والصواب‏:‏ ‏(‏جنابذ اللؤلؤ‏)‏، كذلك فسره ثابت عن ابن السكيت، وقال‏:‏ ‏(‏الجنبذة‏)‏، ما ارتفع من البناء، وبهذا اتضح معنى اللفظة؛ لأنه عليه السلام إنما وصف أرض الجنة وبنيانها، فقال‏:‏ ترابها مسك، وبنيانها لؤلؤ، وقد ذكر البخارى هذه اللفظة فى كتاب الأنبياء عن عنبسة، عن يونس، عن ابن شهاب، كما فسرها أهل اللغة‏:‏ ‏(‏جنابذ اللؤلؤ‏)‏، وإنما جاء الغلط فيها، والله أعلم، من قبل الليث عن يونس، وقد ذكر الطبرى هذا المعنى مبينًا فى بعض طرق حديث الإسراء من طريق ميمون بن سياه، عن أنس قال فيه‏:‏ ‏(‏ثم انطلق به إلى باب الجنة فإذا هو بنهر هو أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، بجنبتيه قباب الدر، قال‏:‏ ما هذا يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ هذا الكوثر الذى أعطاك الله، وهذه مساكنك، وأخذ جبريل بيده من تربته فإذا هو مسك أذفر‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

وروى الأصيلى بإسناده، عن محمد بن العلاء الأيلى، عن يونس الأيلى، عن الزهرى، وقال فيه‏:‏ ‏(‏دخلت الجنة فرأيت فيها جنابذ من اللؤلؤ، وترابها المسك، فقلت‏:‏ لمن هذا يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ للمؤذنين والأئمة من أمتك‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ عن يساره أسودة فهو جمع سواد، والسواد الشخص كما قال الشاعر‏:‏

يغشون حتى ما تهر كلابهم *** لا يسألون عن السواد المقبل

باب وُجُوبِ الصَّلاةِ فِي الثِّيَابِ

وَقَوْلهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف 31‏]‏ وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ‏)‏‏.‏

فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ أَذًى، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَلاَّ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ‏.‏

- فيه‏:‏ أم عطية قالت‏:‏ أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ المُصَّلى، قَالَتِ امْرَأَةٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا‏)‏‏.‏

الواجب من اللباس فى الصلاة ما يستر به العورة، وأما غير ذلك من الثياب فالتجمل بها فى الصلاة حسن، والله أحق من تجمل له، وأجمع أهل التأويل على أن قوله‏:‏ ‏(‏خذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، نزلت من أجل الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، ولذلك أمر الرسول ألا يطوف بالبيت عريان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يزره ولو بشوكة‏)‏، و ‏(‏لتلبسها صاحبتها من جلبابها‏)‏، يدل على وجوب ستر العورة فى الصلاة؛ لأنه إذا زره أمن عند ركوعه وسجوده أن تبدو عورته‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقد اختلف الناس فى ستر العورة فى الصلاة، فبعض أصحاب مالك يقول‏:‏ إن الستر من سنن الصلاة، وإليه ذهب إسماعيل القاضى، وأبو الفرج المالكى بعد أن ذكر أنه يجىء على مذهب مالك أن يكون فرضًا لقوله فى كفارة المساكين‏:‏ إن كساهم وكانوا نساء، فدرع درع وخمار، وإن كانوا رجالاً فثوب ثوب، وذلك أدنى ما تجزئ به الصلاة، فدل أن الصلاة لا تجزئ إلا بذلك‏.‏

وكان أبو بكر الأبهرى يقول‏:‏ إن ستر العورة فرض فى الجملة، على الإنسان أن يسترها عن أعين المخلوقين فى الصلاة وغيرها، والصلاة أوكد من غيرها، وقال أبو حنيفة، والشافعى‏:‏ إنها من فرض الصلاة، فاحتج إسماعيل بأنه يجوز له ستر عورته قبل الدخول فى الصلاة بغير نية، وإنما هى آلةُ يؤتى بها قبل الصلاة، فلو كانت فرضًا لما صح الإتيان بها إلا بنية كالطهارة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فالجواب أن التوجه إلى القبلة مما تختص به الصلاة، ويجوز بغير نية، ولا يدل ذلك على سقوط فرضه مع القدرة عليه، واحتج إسماعيل أيضًا بأنه لو كان فرضًا فى الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلى؛ لأن كل شىء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه أو ببدله مع عدمه كالعاجز عن القيام يصلى قاعدًا، وكالعاجز عن الركوع والسجود يومئ، أو كالتيمم مع عدم وجود الماء، والذى صلى عريانًا لم يفعل فى اللبس فعلاً يقوم مقام اللبس مع عدمه‏.‏

وقد أجيب عن ذلك بأننا لا نقول‏:‏ إن ستر العورة يجب لأجل الصلاة، فلا معنى لاعتباره بأفعال الصلاة، وبما يجب لأجلها كالوضوء الواقع إلى بدل، وكالقبلة وغير ذلك مما تختص به الصلاة، وإنما هو فرض فى الجملة، ويتأكد حكم الصلاة فيه، وليس كل شىء من فروض الصلاة يسقط إلى بدل مع الضرورة؛ لأن القراءة واجبة على المنفرد وتسقط عنه خلف الإمام لا إلى بدل، وكذلك الأُمِّى الذى لا يحسن القراءة ولا التسبيح تصح صلاته من غير بدل‏.‏

فإن قيل‏:‏ فعلى أى شىء يُحمل قول مالك‏:‏ إن الحرة إذا صلتْ بغير خمار أنها تعيد فى الوقت، ولو كان فرضًا؛ لوجب أن تعيد فى الوقت وبعده‏؟‏ قيل‏:‏ يحمل على أنه يعفى عن القليل منها لاختلاف الناس فى ذلك، فلم يقل مالك‏:‏ إنها لو صلت مكشوفة السوأة أنها تعيد فى الوقت مع قدرتها على ستر ذلك، ولو قال ذلك، لم يمنع من كون الستر فرضًا؛ ألا ترى أن الصلاة فى الدار المغصوبة وفى الثوب المغصوب والوضوء بالماء المغصوب فرض عليه ألا يصلى بشىء من ذلك، ولو صلى بجميع ذلك كان قد ترك الفرض وعصى وعليه الإعادة فى الوقت ولا يعيد بعد الوقت، وكذلك التسمية على الذبيحة‏.‏

فبعض الفروض إذا تركها عمدًا أعاد فى الوقت، وبعضها يختلف حكمها فى العمد والنسيان، وبعضها يتفق، وإنما هو على حسب الأدلة فى قوة بعضه وانخفاض بعضه، وحديث سلمة بن الأكوع أصل فى هذه المسألة وهو قوله‏:‏ ‏(‏يزره ولو بشوكة‏)‏، ولو كان ستر العورة سنة لم يقل له ذلك، وإنما قال البخارى‏:‏ وفى إسناده نظر؛ لأن رواية الدراوردى عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع، قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إنى أعالج الصيد فأصلى فى القميص الواحد، قال‏:‏ ‏(‏نعم، وزره ولو بشوكة‏)‏‏.‏

وموسى بن محمد فى حديثه مناكير، قاله البخارى فى كتاب الضعفاء، ورخص مالك فى الصلاة فى القميص محلول الإزار ليس عليه سراويل ولا رداء، وهو قول الكوفيين والشافعى وأبى ثور، إلا أنه إن رأى من جيبه عورته أعاد الصلاة عندهم‏.‏

باب عَقْدِ الإزَارِ عَلَى الْقَفَا فِي الصَّلاةِ

وَقَالَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ‏.‏

- فيه‏:‏ جابر‏:‏ أنه صَلَّى فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ‏:‏ تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ‏؟‏ قَالَ لَهُ‏:‏ إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ، لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ الرَسُول صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وقال جابر مرة‏:‏ ‏(‏رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ‏)‏‏.‏

عقدُ الإزار على القفا فى الصلاة إذا لم يكن مع الإزار سراويل ولا مئرز، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زره ولو بشوكة‏)‏، وهذا كله تأكيد فى ستر العورة فى الصلاة؛ لأنه إذا عقد إزاره فى قفاه وركع لم تبد عورته، فكذلك كان أصحاب الرسول يعقدون أزرهم فى الصلاة إذا لم يكن تحتها ثوب آخر‏.‏

وفى حديث جابر من الفقه أن العالم قد يأخذ بأيسر الشىء وهو يقدر على أكثر منه توسعة على العامة وليقتدى به؛ ألا ترى أنه صلى فى ثوب واحد وثيابه على المشجب‏.‏

ففى ذلك جواز الصلاة فى الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول جماعة من الفقهاء إلا أنه قد روى عن ابن عمر خلاف ذلك، وروى عن ابن مسعود مثل قول ابن عمر، وسأذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وروى ابن جريج، عن نافع أن ابن عمر كساه فدخل المسجد، فوجده يصلى متوشحًا، فقال له‏:‏ أليس لك ثوبان‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ أرأيت لو استعنت بك وراء الدار كنت لابسهما‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فالله أحق أن تتزين له، فأخبره عن النبى، أو عن عمر، قال‏:‏ لا يشتمل أحدكم فى الصلاة اشتمال اليهود، ومن كان له ثوبان فليتزر وليرتد، ومن لم يكن له ثوبان فليتزر ثم يصلى، وقد رواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن الرسول من غير شك‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد روى هذا الحديث عن ابن عمر غير نافع، فذكره سالم لا عن الرسول ورواه الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن عمر، عن أبيه‏.‏‏.‏‏.‏

فذكره، وسالم أثبت من نافع وأحفظ، ولم يذكر فيه الرسول ورواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أنه كسا نافعًا ثوبين، فقام يصلى فى ثوب واحد فعاب ذلك عليه، وقال‏:‏ احذر ذلك؛ فإن الله أحق من تجمل له‏)‏، لم يذكر فيه رسول الله ولا عمر‏.‏

وقد روى عن النبى‏:‏ ‏(‏الصلاة فى ثوب واحد‏)‏ جماعة منهم‏:‏ جابر، وأبو هريرة، وعمر ابن أبى سلمة، وسلمة بن الأكوع، وهذه أحاديث تضاد ما روى عن ابن عمر فى منع الصلاة فى الثوب الواحد، وبها أخذ الفقهاء ولم يتابع ابن عمر على قوله فى ذلك‏.‏

و ‏(‏المشجب‏)‏ عود ينصب فى البيوت تعلق فيه الثياب‏.‏

وفى قول جابر للذى أنكر عليه الصلاة فى ثوب واحد‏:‏ ‏(‏إنما فعلت ذلك ليرانى أحمق مثلك‏)‏، أنه لا بأس للعالم أن يصف بالحمق من جهل دينه، وأنكر على العلماء ما غاب عنه علمه من السُّنة، وقد قال فى حديث آخر‏:‏ ‏(‏أحببت أن يرانى الجهال مثلكم‏)‏، فجعل الحمق كناية عن الجهل، ذكره فى باب الصلاة بغير رداء‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مُلْتَحِفًا بِهِ

قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ الْمُلْتَحِفُ الْمُتَوَشِّحُ، وَهُوَ الْمُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَهُوَ الاشْتِمَالُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ‏:‏ الْتَحَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِثَوْبٍ وَخَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ‏.‏

- فيه‏:‏ عمر بن أبى سلمة‏:‏ أن نبى الله صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ‏.‏

- وقال مرة‏:‏ ‏(‏رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُشْتَمِلا بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أم هانئ‏:‏ ‏(‏أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يصلى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أبو هريرة ‏(‏أَنَّ سَائِلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ‏)‏‏؟‏ قال المؤلف‏:‏ التوشح هو نوع من الاشتمال تجوز الصلاة به؛ لأن فيه مخالفة لطرفى الثوب على عاتقه كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صلى فى ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه‏)‏، واشتمال الصماء المنهى عنه بخلاف ذلك‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ التوشيح هو أن يأخذ طرف الثوب الذى ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذى ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفهما على صدره، ومعنى مخالفته بين طرفيه لئلا ينظر المصلى من عورة نفسه إذا ركع، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن الفقهاء مجمعون على جواز الصلاة فى ثوب واحد، وقد روى عن ابن مسعود خلاف ذلك، كما روى عن ابن عمر‏.‏

ذكر عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن قال‏:‏ اختلف أبى بن كعب، وابن مسعود فى الصلاة فى الثوب الواحد، فقال أُبى‏:‏ لا بأس به، وقد صلى فيه النبى، عليه السلام، فالصلاة فيه اليوم جائزة، وقال ابن مسعود‏:‏ إنما كان ذلك إذ كان الناس لا يجدون ثيابًا، فأما إذا وجدوها، فالصلاة فى ثوبين، فقام عمر على المنبر، فقال‏:‏ الصواب ما قال أُبى، ولم يَأْلُ ابن مسعود‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد تواترت الأخبار عن النبى صلى الله عليه وسلم بالصلاة فى الثوب الواحد منتوشحًا به فى حال وجود غيره، وذلك أن السائل سأل النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى هريرة‏:‏ أيصلى أحدنا فى ثوب واحد‏؟‏ فأجابه جوابًا مطلقًا، فقال‏:‏ ‏(‏أو كلكم يجد ثوبين‏)‏، أى‏:‏ لو كانت الصلاة مكروهة فى الثوب الواحد لكرهت لمن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا، ودل جوابه ذلك أن حكم الصلاة فى الثوب الواحد لمن يجد الثوبين كهو فى الصلاة فى الثوب الواحد لمن لا يجد غيره‏.‏

قال غيره‏:‏ وفهم من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو لكلكم ثوبان‏)‏، أن من صلى فى أكثر من ثوب واحد فقد أحسن؛ ألا ترى قول عمر‏:‏ ‏(‏الصواب ما قال أُبى، ولم يأل ابن مسعود‏)‏، أى‏:‏ لم يقصر فى الاجتهاد، وإن كان قد حكم لأبى بالصواب، فهذا من قول عمر، يوافق ما روى عن الرسول من إجازته الصلاة فى ثوب واحد لمن وجد غيره، وهو أولى أن يؤخذ به مما روى عن ابن عمر وغيره مما يخالف ذلك‏.‏

باب إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلَى عَاتِقَيْهِ

- فيه‏:‏ أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لاَ يُصَلِّى أَحَدَكُم فِى الثَّوْبِ الوَاحِد لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيهِ شَىء‏)‏‏.‏

- وقال مرة‏:‏ سمعت الرسول يقول‏:‏ ‏(‏مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ‏)‏‏.‏

إنما أمر الرسول من صلى فى ثوب واحد أن يجعله على عاتقيه إذا لم يكن متزرًا؛ لأنه إذا لم يكن متزرًا لم يأمن أن ينظر من عورة نفسه فى صلاته، فإذا جعله على عاتقيه وخالف بين طرفيه أمن من ذلك، واستترت عورته، على ما تقدم فى الباب قبل هذا، وإنما هذا فى الثوب إذا كان واسعًا، فحينئذ يجعله على عاتقيه، وأما إذا كان ضيقًا، فإنه يتزر به على ما يأتى فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وهذا كله تأكيد فى ستر العورة فى الصلاة‏.‏

باب إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا

- فيه‏:‏ جابر أنه سئل عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ بِهِ، وَصَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ‏:‏ مَا السُّرَى يَا جَابِرُ‏؟‏ فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ، قَالَ‏:‏ مَا هَذَا الاشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ كَانَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ قَالَ‏:‏ فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا، فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سهل بن سعد قال‏:‏ ‏(‏كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ‏:‏ لا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ حديث جابر هذا يفسر حديث أبى هريرة الذى فى الباب قبل هذا أن النبى قال‏:‏ ‏(‏لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شىء‏)‏، أنه أراد الثوب الواسع الذى يمكن أن يشتمله، وأما إذا كان ضيقًا ولم يمكنه أن يشتمله فليتزر به كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شىء‏)‏، هو نهى عن الصلاة فى الثوب الواحد متزرًا به‏.‏

فظاهره‏:‏ يعارض قوله‏:‏ ‏(‏فإن كان ضيقًا فليتزر به‏)‏، ويعارض حديث بريدة الأسلمى أن الرسول نهى أن يصلى الرجل فى سراويل وحده، رواه ابن وهب، عن زيد بن الحباب، عن أبى المنيب، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ومحمل النهى فى ذلك عندنا للواجد للغيره، وأما من لم يجد غيره فلا بأس بالصلاة فيه كما لا بأس بالصلاة فى الثوب الضيق متزرًا به فعلى هذا تتفق معانى الآثار ولا تتضاد‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ويشهد لصحة ما قال الطحاوى، أن الذين كانوا يعقدون أزرهم على أعناقهم لم يكن لهم غيرها، والله أعلم؛ إذ لو كان لهم غيرها للبسوها فى الصلاة، وما احتيج أن ينهى النساء عن رفع رءوسهن حتى يستوى الرجال جلوسًا، وتختلف أحكامهم فى الصلاة، وذلك مخالف لقول الرسول فى الإمام‏:‏ ‏(‏فلا تختلفوا عليه‏)‏، ولقوله‏:‏ ‏(‏فإذا رفع فارفعوا‏)‏، ألا ترى أن عمرو بن سلمة حين كان يصلى بقومه، وتنكشف عورته، لم تكن له غير تلك الجبة القصيرة، فلما اشتريت له جبة سابغة تستره فى الصلاة، قال‏:‏ فما فرحت بشىء فرحى بها‏.‏

وفى حديث سهل أن الثوب إذا أمكن أن يشتمل به، وإن لم يكن سابغًا أن الاشتمال أولى به من الاتزار؛ لأن الاشتمال أستر للعورة من الاتزار ولذلك لم يؤمر الذين عقدوا أزرهم على عواتقهم بالاتزار بها، والله أعلم‏.‏

وإنما نهى النساء عن رفع رءوسهن خشية أن يلمحن شيئًا من عورات الرجال عند الرفع من السجود، وهذا كله حماية من النظر إلى عورة المصلى، ولا خلاف بين العلماء أن المصلى إذا تقلص مئزره أو كشفت الريح ثوبه، فظهرت عورته، ثم رجع الثوب فى حينه وفوره أنه لا يضر ذلك المصلى شيئًا، وكذلك المأموم إذا رأى من العورة مثل ذلك لا تنتقض صلاته؛ لأنه إنما يحرم النظر مع العمد ولا يحرم النظر فجأة، وإذا صحت صلاة الإمام فأحرى أن تصح صلاة المأموم، وقال ابن القاسم فى العتبية‏:‏ إن فرط فى رد إزاره، فصلاته وصلاة من تأمل عورته باطل‏.‏

قال المهلب‏:‏ والاشتمال الذى أنكره الرسول هو اشتمال الصماء المنهى عنه، وهو أن يجلل نفسه بثوبه، لا يرفع شيئًا من جوانبه، ولا يمكنه إخراج يديه إلا من أسفله، فيخاف أن تبدو عورته عند ذلك، فلذلك قال له النبى‏:‏ ‏(‏إن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ما السُّرَى يا جابر‏؟‏‏)‏، إنما سأله عن سُراه إذ علم أنه لا يأتيه أحد ليلاً إلا لحاجة، فسأله عن ذلك، يدل على ذلك قول جابر‏:‏ فأخبرته بحاجتى، وفيه طلب الحوائج بالليل من السلطان لخلاء موضعه وسره‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ فِي الثِّيَابِ يَنْسُجُهَا الْمَجُوس لَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا‏.‏

وقال مَعْمَرٌ‏:‏ رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ مَا صُبِغَ بِالْبَوْلِ، وَصَلَّى عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ‏.‏

- فيه‏:‏ المغيرة بن شعبة قال‏:‏ ‏(‏كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَالَ‏:‏ يَا مُغِيرَةُ خُذِ الإدَاوَةَ، فَأَخَذْتُهَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ، فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا، فَضَاقَتْ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، فَتَوَضَّأَ، وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى‏)‏‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ إباحة لبس ثياب المشركين؛ لأن الشام كانت ذلك الوقت دار كفر، وكان ذلك فى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وكانت ثياب المشركين ضيقة الأكمام‏.‏

واختلف العلماء فى الصلاة فى ثياب الكفار، فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه لا بأس بالصلاة فيما نسجوه، وكره مالك الصلاة فى ما لبسوه، وقال‏:‏ إن صلى فيه فيعيد فى الوقت، وأجاز ذلك الكوفيون والثورى والشافعى، وقالوا‏:‏ لا بأس بلباسها، وإن لم تغسل حتى يتبين فيها النجاسة، إلا أن أبا حنيفة، قال‏:‏ أما السراويل، والأزر فأكره أن يلبسها المسلم إلا بعد الغسيل‏.‏

وقال إسحاق‏:‏ تُطهر جميع ثيابهم، وليس فى حديث الجبة الشامية ما يقطع به، وإن كان النبى غسلها قبل لباسه أم لا، فلا حجة فيه لواحد منهم، وأما صلاة الزهرى فى ثوب صبغ بالبول، فمعلوم أنه لم يصل فيه إلا بعد غسله وإنما على المرء أن يغسل ثوبه حتى يتيقن طهارته‏.‏

وفيه‏:‏ خدمة العالم فى السفر، وفيه إخراج اليد من أسفل الثوب إذا احتيج إلى ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ لباس الثياب الضيقة الأكمام فى السفر، والثياب القصار كالأقبية وغيرها‏.‏

باب كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا

- فيه‏:‏ جابر‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ‏:‏ يَا ابْنَ أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ، فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ، قَالَ‏:‏ فَحَلَّهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

بنيان الكعبة كان والنبى غلام قبل البعثة بمدة، وقيل‏:‏ كان يومئذ ابن خمسة عشر عامًا، وقد بعثه الله بالرسالة إلى خلقه، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وأنزل عليه فى القرآن ما حمله أن يأمر‏:‏ ‏(‏ألا يطوف بالبيت عريانًا‏)‏، ونسخ بذلك ما كانوا عليه من جاهليتهم من مسامحتهم فى النظر إلى العورات، وكان قد جبله الله على جميل الأخلاق وشريف الطباع، ألا ترى أنه غشى عليه وما رُئى بعد ذلك عريانًا‏.‏

وفائدة هذا الحديث قوله‏:‏ ‏(‏فما رُئى بعد ذلك عريانًا‏)‏‏.‏

ففيه أنه لا ينبغى التعرى للمرء بحيث تبدو عورته لعين الناظر إليها، والمشى عريانًا بحيث لا يأمن أعين الآدميين إلا ما رُخص فيه من رؤية الحلائل لأزواجهن عراةً‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقد حدثنا ابن حميد، عن هارون بن المغيرة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب، وذكر الحديث وقال فيه‏:‏ أنه لما سقط النبى صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء وأخذ إزاره، وقال‏:‏ ‏(‏نُهيت عن أن أمشى عريانًا‏)‏، فقلت‏:‏ ‏(‏اكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون‏)‏‏.‏

فدل هذا الحديث أنه لا يجوز التعرى فى الخلوة ولا لأعين الناس‏.‏

وقيل‏:‏ إنما مخرج القول منه لذلك الحال التى كان عليها، فحيث كانت قريش نساؤها ورجالها تنقل معه الحجارة، فقال‏:‏ ‏(‏نهيت أن أمشى عريانًا‏)‏، فى مثل هذه الحالة ولو كان ذلك نهيًا من الله له عن التعرى فى كل مكان لكان قد نهاه عن التعرى للغسل من الجنابة فى الموضع الذى قد أمن أن يراه فيه أحد إلا الله، إذ كان المغتسل لا يجد بدًا من التعرى، ولكنه نُهى عن التعرى بحيث يراه أحد‏.‏

وفى نهيه عليه السلام، عن المشى عريانًا بيان أنه لا يجوز القعود عريانًا فى موضع يكون معناه معنى الموضع الذى نهى فيه عن المشى عريانًا، وذلك القعود بحيث يراه من لا يحل له أن يرى عورته؛ فكان القعود عريانًا فى معنى المشى عريانًا، ولذلك نهى النبى عن دخول الحمام بغير إزار‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما أنت قائل فى حديث القاسم، عن أبى أمامة، عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏لو استطيع أن أوارى عورتى من شعارى لواريتُها‏)‏، وفى قول على بن أبى طالب، رضى الله عنه‏:‏ ‏(‏إذا كشف الرجل عورته أعرض عنه الملك‏)‏، وفى قول أبى مجلز قال‏:‏ قال أبو موسى الأشعرى‏:‏ ‏(‏إنى لأغتسل فى البيت المظلم فما أقيم صُلبى حياءً من ربى‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ قيل له‏:‏ حديث أبى أمامة إن صح عن الرسول، فهو منه محمول على وجه الاستحباب، لاستعمال السترة والندب لأمته إلى ذلك؛ وكذلك كان ذلك من على وأبى موسى لا على أنهما رأيا أن ذلك حرام؛ لأن الله لا يغيب عنه شىء من خلقه عراةً كانوا أو عليهم ثياب، فلا وجه لترك إقامة الصلب عند الاغتسال ولو كان العبد إذا لم يقم صلبه استتر من جسده عن ربه شىء كان ذلك معنى صحيحًا؛ فأما وهو لو انطبق بعضه على بعض لم يغب شىء من أجزاء جسده عن عين ربه، تعالى ذكره، فلا وجه لترك إقامة الصلب عند الاغتسال فى الخلوة حياءً من الله، تعالى، بل ذلك داعية إلى أن يكون سببًا لتضييع غسل بعض جسده أقرب منه إلى أن يكون حياءً من الله‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَالْقَبَاءِ

- فيه‏:‏ أبو هريرة‏:‏ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ‏:‏ أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ‏)‏‏.‏

ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ‏:‏ إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ‏:‏ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ، قَالَ‏:‏ وَأَحْسِبُهُ قَالَ‏:‏ فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ سَأَلَ رَجُلٌ النبى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلا السَّرَاوِيلَ وَلا الْبُرْنُسَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ اللازم من الثياب فى الصلاة ثوب واحد ساتر للعورة، وقول عمر‏:‏ ‏(‏إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، يدل على ذلك، وجمع الثياب فى الصلاة اختيار واستحسان وعليه جماعة الفقهاء، والله أحق من تجمل له‏.‏

وقول عمر‏:‏ ‏(‏فى تبان ورداء‏)‏، يدل أن الرداء يشتمل فى الصلاة؛ لأنه لا يكون الرداء مع التبان والسراويل الكاملة إلا مشتملاً به، وقال الخليل‏:‏ التبان يشبه سراويل صغير، تذكره العرب‏.‏

وقد اختلف أصحاب مالك فيمن صلى فى سراويل وهو قادر على التبان؛ ففى المدونة‏:‏ لا يعيد فى وقت ولا غيره، وفى المجموعة عن ابن القاسم مثله، وعن أشهب‏:‏ عليه الإعادة فى الوقت؛ وعن أشهب أيضًا أن صلاته تامة إن كان صفيقًا‏.‏

وقول عمر‏:‏ ‏(‏جمع رجل عليه ثيابه‏)‏، يعنى ليجمع عليه ثيابه وليصلى فيها، فجاء بلفظ الفعل الماضى وهو يريد المستقبل، وذلك كثير فى التنزيل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، والمعنى‏:‏ إذ يقول الله دل على ذلك قول عيسى‏:‏ ‏(‏ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتنى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏، فدل قوله‏:‏ ‏(‏فلما توفيتنى ‏(‏أن هذا الكلام إنما يكون بعد وفاة عيسى ومبعثه يوم القيامة‏.‏

باب مَا يَسْتُرُ مِنَ الْعَوْرَةِ

- فيه‏:‏ أبو سعيد وأبو هريرة‏:‏ أَنَّ الرَسُولُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أبو هريرة قال‏:‏ ‏(‏بَعَثَنِي الرسول صلى الله عليه وسلم نُؤَذن يوم النحر بِمِنًى‏:‏ أَنْ لا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ‏)‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ ‏(‏اشتمال الصماء عند العرب‏:‏ أن يشتمل الرجل بثوب فيجلل به جسده كله، ولا يرفع منه جانبًا فيخرج منه يده، قال‏:‏ وربما اضطجع فيه على هذه الحال، كأنه يذهب إلى أنه لا يدرى لعله يصيبه شىء يريد الاحتراس منه والاتقاء بيديه، فلا يقدر، لإدخالهما فى ثيابه، فهذا كلام العرب، وأما تفسير الفقهاء فهو عندهم مثل الاضطباع، وهو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ويرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبيه، فيبدو منه فرجه‏)‏‏.‏

إلا أن الاضطباع أن يدخل الثوب تحت يده اليمنى، ويبرز منكبه الأيمن، وقد ذكر البخارى فى كتاب اللباس فى حديث أبى هريرة، وأبى سعيد عن النبى تفسير اشتمال الصماء والاحتباء؛ قال‏:‏ ‏(‏الصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب‏)‏، وهو نحو ما حكاه أبو عبيد عن الفقهاء؛ واختلف قول مالك فى اشتمال الصماء إذا كان تحتها ثوب فمرة أجازها ومرة كرهها‏.‏

والاحتباء‏:‏ هو أن يحتزم بالثوب على حقويه وركبتيه وفرجه بادٍ، كانت العرب تفعله؛ لأنه أرفق لها فى جلوسها، وفى حديث أبى سعيد، وأبى هريرة فى اللباس قال‏:‏ الاحتباء أن يحتبى فى ثوب وهو جالس ليس على فرجه منه شىء‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ الاحتباء أن يجمع ظهره ورجليه بثوب، يقال‏:‏ العمائم تيجان العرب، والحباء حيطانها، يقال‏:‏ حبْوَة، وحُبُوَة والكسر أعلى‏.‏

والاحتباء على ثوب جائز؛ لأن رسول الله إنما نهى عنه إذا كان كاشفًا عن فرجه‏.‏

وكره الصلاة محتبيًا‏:‏ ابن سيرين، وأجازها الحسن، والنخعى، وعروة، وسعيد بن المسيب، وعبيد بن عمير، وكان سعيد بن جبير يصلى محتبيًا فإذا أراد أن يركع حلّ حبوته ثم قام وركع، وصلى التطوع محتبيًا عطاء، وعمر بن عبد العزيز‏.‏

واختلف العلماء فى حدِّ العورة، فقالت طائفة‏:‏ لا عورة من الرجال إلا القبل والدبر، هذا قول ابن أبى ذئب وأهل الظاهر، وعند مالك حَدُّ العورة‏:‏ ما بين السرة إلى الركبة وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وليست السُّرة والركبة عندهم بعورة غير أبى حنيفة، فإن الركبة عنده عورة، وهو قول عطاء، وأحمد، وعند بعض أصحاب الشافعى‏:‏ السُّرة عورة‏.‏

وجه القول الأول‏:‏ ‏(‏نهيه عن اشتمال الصماء، وأن يحتبى فى ثوب واحد ليس على فرجه منه شىء‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أنزلنا عليكم لباسًا يوارى سوءاتكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏فبدت لهما سوءاتهما‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏يوارى سوءة أخيه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 31‏]‏، فدل أنه لا عورة غير السوءة‏.‏

وحجة من قال‏:‏ ما بين السُّرة إلى الركبة عورة، قوله صلى الله عليه وسلم لجرهد‏:‏ ‏(‏الفخذ عورة‏)‏، ومنعهم من كشف الفخذ كمنعهم من الرعى حول الحمى‏.‏

وحجة من قال‏:‏ إن السُّرة ليست بعورة أن النبى قبّل سُرة الحسن بن على، وأن أبا هريرة سأل الحسن كشف سُرته فقبلها، وقال‏:‏ أقبل منك ما رأيت رسول الله يقبله، ولو كانت عورة ما قَبَّلها أبو هريرة ولا مكنه الحسن منها، وقال الآخرون‏:‏ ليس هذا بحجة؛ لأن عورات الصبيان ليست بمحرمة؛ لأنه لا يلزمهم الأحكام والحدود‏.‏

باب الصَّلاةِ بِغَيْرِ رِدَاءٍ

- فيه‏:‏ جابر ‏(‏أنه صلى فى ثوب واحد وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْنَا يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ، تُصَلِّي وَرِدَاؤُكَ مَوْضُوعٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، أَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي هَكَذَا‏.‏

كل من صلى بغير رداء إذا كان عليه قميص، فلا يكره له ذلك أحد من العلماء إلا أن مالكًا ذكر عنه ابن عبد الحكم أنه قال‏:‏ لا يصلى إمام إلا برداء إلا من ضرورة وهذا على الاستحسان فى كمال أحوال الأئمة، ولو كان من جهة الوجوب، لكان الإمام والمأموم فيه سواء‏.‏

باب مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْفَخِذُ عَوْرَةٌ‏.‏

وقال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ‏:‏ حَسَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَخِذِهِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ، حَتَّى يُخْرَجَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ‏.‏

وقال أَبُو مُوسَى‏:‏ غَطَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رُكْبَتَيْهِ حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ‏:‏ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَفَخِذُهُ، عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي‏.‏

- فيه‏:‏ أنس‏:‏ أن نبى الله صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَسَرَ الإزَارَ عَنْ فَخِذِهِ، حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ، قَالَ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ‏)‏، وذكر الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ احتج بحديث أنس، وحديث زيد بن ثابت من قال‏:‏ إن الفخذ ليست بعورة؛ لأنها لو كانت عورة يجب سترها ما كشفها النبى يوم خيبر، ولا تركها مكشوفة بحضرة أبى بكر وعمر، وقد قال الأوزاعى‏:‏ ‏(‏الفخذ عورة وليست بعورة فى الحمام‏)‏، فدل أنها لا تقوى عندهم قوة العورة، وإن كانوا يأمرون بسترها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما ذلك خوف النظر إلى العورة والذريعة إليها، فيكون معنى قوله‏:‏ ‏(‏الفخذ عورة‏)‏، على المقاربة والجوار، وقد أجمعوا أن من صلى منكشف القبل والدبر، أن عليه الإعادة واختلفوا فيمن صلى منكشف الفخذ، فدل أن حكمه مخالف لحكم القبل والدبر لاختلاف المعنى فى ذلك‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ لم غطى النبى ركبته حين دخل عليه عثمان بن عفان‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ قد بَيَّن النبى، معنى ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏ألا أستحى ممن تستحيى منه ملائكة السماء‏)‏، وإنما كان يخص كل واحد من أصحابه من الفضائل بما يتبين به عن غيره، ويمتاز به عمن سواه، وإن كان قد شركه غيره من أصحابه فى معنى تلك الفضيلة، وله النصيب الوافر منها غير أنه عليه السلام، إنما كان يصف كل واحد من أصحابه بما هو الغالب عليه من أخلاقه وهو مشهور فيه؛‏:‏ فلما كان الحياء الغالب على عثمان استحيا منه، وغطى ركبته بحضرته، وذكر أن الملائكة تستحيى منه فكانت المجازاة له من جنس فعله‏.‏

باب فِي كَمْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ من الثِّيَابِ‏؟‏

وَقَالَ عِكْرِمَةُ‏:‏ لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ جَازَ‏.‏

- فيه‏:‏ عائشة قالت‏:‏ ‏(‏لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ، مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى عدد ما تصلى فيه المرأة من اليثاب، فقالت طائفة‏:‏ تصلى فى درع وخمار، وروى ذلك عن ميمونة، وعائشة، وأم سلمة أزواج الرسول، ورُوى أيضًا ذلك عن ابن عباس، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقالت طائفة‏:‏ إنما تصلى فى ثلاثة أثواب‏:‏ درع، وخمار، وحَقْو، وهو الإزار فى لغة الأنصار، روى ذلك عن ابن عمر، وعبيدة، وعطاء، وقالت طائفة‏:‏ تصلى فى أربعة أثواب وهو‏:‏ الخمار، والدرع، والإزار، والملحفة، وروى ذلك عن مجاهد، وابن سيرين‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ على المرأة أن تستر فى الصلاة جميع بدنها سوى وجهها وكفيها سواء سترته بثوب واحد أو أكثر، ولا أحسب ما روى عن المتقدمين فى ذلك من الأمر بثلاثة أثواب أو أربعة إلا من طريق الاستحباب، والله أعلم‏.‏

قال غيره‏:‏ لأن صلاة النساء المتلفعات مع النبى يحتمل أن تكون بثوب واحد والمرأة كلها عورة، حاشا ما يجوز لها كشفه فى الصلاة والحج، وذلك وجهها وكفاها فإن المرأة لا تلبس القفازين محرمة، ولا تنتقب فى الصلاة ولا تتبرقع فى الحج، وأجمعوا أنها لا تصلى منتقبة ولا متبرقعة، وفى هذا أوضح دليل على أن وجهها وكفيها ليس بعورة، ولهذا يجوز النظر إلى وجهها فى الشهادة عليها، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن‏:‏ كل شىء من المرأة عورة حتى ظفرها، وهذا قول لا نعلم أحدًا قاله إلا أحمد بن حنبل، وقال مالك، والشافعى‏:‏ قدم المرأة عورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة أعادت فى الوقت عند مالك، وكذلك إن صلت وشعرها مكشوف، وعند الشافعى تعيد أبدًا، وقال أبو حنيفة، والثورى‏:‏ قدم المرأة ليست بعورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة لم تُعد، واختلفوا فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، فروى عن ابن عباس، وابن عمر قالا‏:‏ الوجه والكفان، وعن ابن مسعود‏:‏ التبان، والقرط، والدملج، والخلخال، والقلادة، وعلى قول ابن عباس، وابن عمر جماعة الفقهاء‏.‏

والمروط‏:‏ أكسية من صوف، واحدها مرط‏.‏

باب إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلامٌ وَنَظَرَ إِلَيهَا

- فيه‏:‏ عائشة‏:‏ ‏(‏أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ‏:‏ اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَائَتُونِى بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاتِي‏)‏، وقال مرة‏:‏ ‏(‏كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلاةِ، فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِى‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ النظر فى الصلاة إلى الشىء إذا لم يقدح فى الركوع والسجود لا يفسد الصلاة، وإن كان مكروهًا كل ما يشغل المصلى عن صلاته ويلهيه عن الخشوع، فلما شغلته عليه السلام، عن بعض خشوعه تشاءم بها وردها، وقال سفيان بن عيينة‏:‏ إنما رد رسول الله الخميصة إلى أبى جهم؛ لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن ذكر الله، كما قال‏:‏ ‏(‏اخرجوا عن هذا الوادى الذى أصابكم فيه الغفلة، فإنه وادٍ به شيطان‏)‏، قال‏:‏ ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعث إلى غيره بشىء يكرهه لنفسه؛ ألا ترى قوله عليه السلام، لعائشة فى الضب‏:‏ ‏(‏إنا لا نتصدق بما لا نأكل‏)‏، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى خلق الله على دفع الوسوسة، ولكن كرهها لدفع الوسوسة كما قال لعائشة‏:‏ ‏(‏أميطى عنا قرامك، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لى فى صلاتى‏)‏‏.‏

وفى ردّه صلى الله عليه وسلم الخميصة تنبيه منه وإعلام أنه يجب على أبى جهم من اجتنابها فى الصلاة مثلما وجب على النبى؛ لأن أبا جهم أحرى أن يعرض له من الشغل بها أكثر مما خشى الرسول، ولم يُرد النبى برد الخميصة عليه منعه من تملكها ولباسها فى غير الصلاة، وإنما معناها كمعنى الحُلة التى أهداها لعمر بن الخطاب، وحرَّم عليه لباسها وأباح له الانتقاع بها وبيعها‏.‏

وفيه دليل‏:‏ أن الواهب والمُهدى إذا ردت عليه هديته من غير أن يكون هو الراجع فيها، فله أن يقبلها؛ إذ لا عار عليه فى قبولها‏.‏

وفيه‏:‏ أن النبى آنس أبا جهم ردها إليه بأن سأله ثوبًا مكانها يعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافًا به، ولا كراهة لكسبه‏.‏

وفيه‏:‏ تكنية الإمام والعالم لمن هو دونه‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ و ‏(‏الخميصة‏)‏ كساء مُرَبَّع أسود له علمان، وقال ثعلب‏:‏ ‏(‏أنبجانية‏)‏، بفتح الباء وكسرها، كل ما كثف والتف، قالوا‏:‏ شاة أنبجانية كثيرة الصوف ملتفة، وقال الأصمعى‏:‏ يقال‏:‏ كساء منبجانى منسوب إلى منبج، ولا يقال‏:‏ أنبجانى، قال أبو حاتم‏:‏ قلت‏:‏ لم فتحت الباء وإنما نسبت إلى منبج، قال‏:‏ خرج مخرج منظرانى ومخيرانى ألا ترى أن الزيادة فيه، والنسب مما يتغير له البناء‏.‏

باب إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أَوْ تَصَاوِيرَ هَلْ تَفْسُدُ صَلاتُهُ وَمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ

- فيه‏:‏ أنس قال‏:‏ ‏(‏كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاتِى‏)‏‏.‏

فهذا الباب يشبه الذى قبله؛ لأنه لما نهى عن القرام الذى فيه التصاوير، علم أن النهى عن لباسه أشد وأوكد، وهذا كله على الكراهية، ومن صلى بذلك أو نظر إليه، فصلاته مجزئة عند العلماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُعد الصلاة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أمر باجتناب مثل هذا لإحضار الخشوع فى الصلاة وقطع دواعى الشغل، والقرام‏:‏ ثوب صوف ملوّن، عن الخليل‏.‏

باب مَنْ صَلَّى فِي فَرُّوجِ حَرِيرٍ ثُمَّ نَزَعَهُ

- فيه‏:‏ عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏(‏أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، وَقَالَ‏:‏ لا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ‏)‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ الفروج‏:‏ القَبَاء الذى فيه شق من خلفه، وهو من لباس الأعاجم‏.‏

اختلف العلماء فيمن صلى فى ثوب حرير، فقال الشافعى، وأبو ثور‏:‏ يجزئه ويكره، وقال ابن القاسم، عن مالك‏:‏ من صلى بثوب حرير يعيد فى الوقت إن وجد ثوبًا غيره، وعليه جُلُّ أصحابه، وقال أشهب فى كتاب ابن المواز‏:‏ لا إعادة عليه فى وقت ولا غيره‏.‏

وهو قول أصبغ، ورواه عبد الملك بن الحسن، عن ابن وهب فى العتبية، واستحب ابن الماجشون لباس الحرير فى الحرب والصلاة به للترهيب على العدو والمباهاة؛ ذكره ابن حبيب، وقال آخرون‏:‏ إن صلى بثوب حرير، وهو يعلم أن ذلك لا يجوز أعاد الصلاة، ومن أجاز الصلاة فيه احتج بأنه لم يُرو عن الرسول أنه أعاد الصلاة التى صلى فيه، ومن لم يجز الصلاة فيه أخذ بعموم تحريمه عليه السلام، لباس الحرير للرجال‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الأحْمَرِ

- فيه‏:‏ أبو جحيفة‏:‏ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلالا أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بِلالا أَخَذَ عَنَزَةً، فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مُشَمِّرًا صَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ، يَمُرُّونَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْعَنَزَةِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه إباحة لباس الحمرة فى الثياب، والرد على من كره ذلك وأنه يجوز لباس الثياب الملونة للسيد الكبير والزاهد فى الدنيا، والحمرة أشهر الملونات وأجل الزينة فى الدنيا، وقد قيل فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخرج على قومه فى زينته‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 79‏]‏، أنه خرج فى ثياب حُمر، ويؤيد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏، فدخل فيه كل زينة مباحة، وسيأتى قول من كره لباس الثياب الحمر، ومن أجازها فى كتاب اللباس إن شاء الله‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي السُّطُوحِ وَالْمِنْبَرِ وَالْخَشَبِ

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْجُمْدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَإِنْ جَرَى تَحْتَهَا بَوْلٌ أَوْ فَوْقَهَا أَوْ أَمَامَهَا، إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ‏.‏

وَصَلَّى أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلاةِ الإمَامِ وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ عَلَى الثَّلْجِ‏.‏

- فيه‏:‏ أبو حازم‏:‏ سَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ الْمِنْبَرُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مَا بَقِيَ بِالنَّاسِ أَعْلَمُ مِنِّي، هُوَ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ، عَمِلَهُ فُلانٌ مَوْلَى فُلانَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ عُمِلَ، وَوُضِعَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ كَبَّرَ، وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، فَسَجَدَ عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ بِالأرْضِ، فَهَذَا شَأْنُهُ‏.‏

قال على بن المدينى‏:‏ سألنى أحمد بن حنبل، عن هذا الحديث قال‏:‏ فإنما أردت أن النبى كان أعلى من الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس لهذا الحديث، قال‏:‏ فقلت‏:‏ إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيرًا، فلم تسمعه منه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

- وفيه أنس‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ عَنْ فَرَسِ، فَجُحِشَتْ سَاقُهُ أَوْ كَتِفُهُ، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَجَلَسَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ دَرَجَتُهَا مِنْ جُذُوعٍ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، وَهُمْ قِيَامٌ‏)‏، وذكر الحديث‏.‏

اختلف العلماء فى الإمام يصلى أرفع من المأمومين، فأجاز ذلك الليث، والشافعى، واحتجا بهذا الحديث وزاد الشافعى‏:‏ إذا أراد الإمام تعليمهم ليقتدى به من وراءه ويسجد على الأرض‏.‏

وفيه‏:‏ فلما فرغ النبى أقبل على الناس، فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس إنما صنعتُ هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى‏)‏‏.‏

ذكره البخارى فى صلاة الجمعة وكره ذلك أبو حنيفة، وقال‏:‏ صلاتهم تامة‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ لا يجزئ ذلك حتى يستوى معهم بالأرض، وقال أبو يوسف‏:‏ إن كان موضع الإمام أرفع بقدر قامة فهو المكروه، وإن كان أقل فليس بمكروه‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن المنبر الذى صلى عليه الرسول كان بثلاث درجات، روى عن سهل بن سعد، وقال مالك‏:‏ لا يعجبنى إن صلى إمام على ظهر المسجد والناس أسفل منه أو يصلى على شىء أرفع مما عليه أصحابه، فإن فعل فعليهم الإعادة أبدًا؛ لأنهم يعبثون إلا أن يكون ارتفاعًا يسيرًا فصلاتهم مجزئة‏.‏

وقال ابن أبى زيد‏:‏ قال بعض أصحابنا‏:‏ إن الشبر وعظم الذراع خفيف فى ذلك، وقال فضل بن سلمة‏:‏ وقوله‏:‏ يعبثون يدل أنما ذلك إذا كان الإمام يصلى بموضع واسع ويصلى بصلاته ناس أسفل منه، وهو يقدرون على أن يصلوا معه فى مكانه، فأما إذا كان الموضع قد ضاق بأهله فلا بأس أن يصلى بصلاة الإمام ناس أسفل منه، وروى أشهب عن مالك، فيمن أتى مسجدًا مغلقًا قد امتلأ، فله أن يصلى أسفل فى الفضاء بصلاة الإمام، وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا صلى إمام القوم فى السفينة وبعضهم فوقه وتحته ولم يجدوا بُدًا منه فلا بأس‏.‏

قال ابن اللباد‏:‏ إنما كره مالك هذا؛ لأن بنى أمية فعلوه على وجه الكبر والجبرية فرآه من العبث ومما يفسد الصلاة، وقال غيره‏:‏ لا معنى لقول من قال‏:‏ ‏(‏لا يجوز مثل هذا إلا إذا أراد أن يعلم الناس كما روى فى الحديث‏)‏؛ لأن ذلك لو كان مُفسدًا للصلاة لم يجز أن يُفعل مرة فما دونها ولا لتعليم ولا غيره، وإنما الاختيار أن لا يُفعل، فإن فعل لم تفسد صلاته بدليل فعله صلى الله عليه مرةً، وأما تحديد القامة وغيرها فمحتاج إلى توقيف، ولا بأس أن يصلى المأموم على سطح والإمام أسفل المسجد عند الكوفيين، وهو قول مالك فى غير الجمعة‏.‏

وقال الليث‏:‏ لا بأس أن يصلى الجمعة ركعتين على ظهر المسجد وفى الدور وعلى الدكاكين، وفى الطرق إذا اتصلت الصفوف، ورأى الناس بعضهم بعضًا حتى يصلون بصلاة الإمام، وعن الشافعى مثله، وصلى أبو هريرة الجمعة فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام‏.‏

وإنما ذكر حديث المشربة فى هذا الباب وهى الغرفة؛ لأنه عليه السلام صلى بهم على ألواحها وخشبها، وترجم ‏(‏باب الصلاة على الخشب‏)‏، واختلف فى ذلك؛ فذكر ابن أبى شيبة قال‏:‏ كان حذيفة مريضًا، فكان يصلى قاعدًا فجعل له وسادة وجعل له لوح عليها يسجد عليه، وكره قوم السجود على العود، روى ذلك عن ابن عمر، وابن مسعود‏.‏

قال علقمة‏:‏ دخل عبد الله على أخيه عتبة يعوده فوجده يصلى على عود فطرحه، وقال‏:‏ إن هذا شىء عرض به الشيطان، ضع وجهك على الأرض، وإن لم تستطع فأومئ إيماءً، وكرهه الحسن وابن سيرين، وأئمة الفتوى على جواز الصلاة عليه وحجتهم صلاته عليه السلام، على المشربة وعلى المنبر‏.‏

باب إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي امْرَأَتَهُ إِذَا سَجَدَ

- فيه‏:‏ ميمونة قالت‏:‏ ‏(‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَأَنَا حِذَاءَهُ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ، قَالَتْ‏:‏ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ‏)‏‏.‏

وقد تقدم فى كتاب الوضوء جواز مباشرة الحائض للمصلى وغيره وأنها محمولة على الطهارة فى جسمها وثيابها حتى يبدو خلاف ذلك‏.‏

وترجم له باب‏:‏ الصلاة على الخمرة، قال الطبرى‏:‏ الخُمرة‏:‏ مصلى صغير ينسج من سعف النخل ويزمل بالخيوط ويسجد عليه، فإن كان كبيرًا قدر طول الرجل أو أكبر، فإنه يقال له حينئذ‏:‏ حصير، ولا يقال له‏:‏ خمرة، وقال ابن دريد‏:‏ هى السجادة وجمعها خمر‏.‏

ولا خلاف بين فقهاء الأمصار فى جواز الصلاة على الخمرة إلا شىء روى عن عمر ابن عبدالعزيز أنه كان لا يصلى على الخمرة، ويؤتى بتراب فيوضع على الخمرة فى موضع سجوده ويسجد عليه، وقال شعبة، عن حماد‏:‏ رأيت فى بيت إبراهيم النخعى حصيرًا، فقلت‏:‏ أتسجد عليه‏؟‏ فقال‏:‏ الأرض أحب إلىّ، وهذا منهما على جهة المبالغة فى الخشوع لا أنهما لم يريا السجود على الخمرة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد صلى عليها، وقال سعيد بن المسيب‏:‏ الصلاة على الخمرة سنة، فلا يجوز لهما مخالفة سنته عليه السلام، وإنما فعلا ذلك على الاختيار، إذ قد ثبت عنه عليه السلام، أنه كان يباشر الأرض بوجهه فى سجوده، وقد انصرف من الصلاة وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين؛ فذلك كله مباح بسنته عليه السلام‏.‏

باب الصَّلاةِ عَلَى الْحَصِيرِ

وَصَلَّى جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ ‏(‏تُصَلِّى قَائِمًا، مَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى أَصْحَابِكَ، تَدُورُ مَعَهَا، وَإِلا فَقَاعِدًا‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أنس‏:‏ ‏(‏أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ قُومُوا، فَلأصَلِّ لَكُمْ، قَالَ أَنَسٌ‏:‏ فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ وَصَفَفْتُ، وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ‏)‏‏.‏

لا خلاف بين الفقهاء فى جواز الصلاة على الحصير على ما ذكرناه فى الباب قبل هذا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أنه ما يوطأ ويبسط فإنه ملبوس، فمن حلف أن لا يلبس ثوبًا وجلس عليه، فهو حانث إذا لم يخص وجهًا من اللباس‏.‏

ونضح أنس للحصير إنما كان لِيَلينَ، لا لنجاسة كانت فيه، هذا قول إسماعيل بن إسحاق، وقال غيره‏:‏ النضح طهارة لما شك فيه فنضحه لتطيب النفس عليه، وهذا كقول عمر‏:‏ اغسل ما رأيت وانضح ما لم تر‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه الإمامة فى النافلة، وفيه إجابة الطعام إلى غير الوليمة، وفيه أن المرأة المتجالة الصالحة إذا دعت إلى طعام أجيبت، وسيأتى بقية الكلام فى هذا الحديث فى موضعه بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

وأما الصلاة فى السفينة، فأجاز قوم من السلف أن يصلوا فيها جلوسًا وهو قول الثورة وأبى حنيفة، وقال مالك، والشافعى‏:‏ لا يجوز أن يصلى قاعدًا من يقدر على القيام فى سفينة ولا غيرها‏.‏

باب الصَّلاةِ عَلَى الْفِرَاشِ

وَصَلَّى أَنَسٌ عَلَى فِرَاشِهِ‏.‏

وقال كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَسْجُدُ أَحَدُنَا عَلَى ثَوْبِهِ‏.‏

- فيه‏:‏ عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ‏:‏ وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ‏)‏‏.‏

- وقالت مرة‏:‏ ‏(‏أَنَّ النَّبِّى كَانَ يُصَلِّي- وَهِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ- عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ‏)‏‏.‏

- وقال عروة‏:‏ ‏(‏أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي، وَعَائِشَةُ- مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ- عَلَى الْفِرَاشِ الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الصلاة جائزة على كل شىء طاهر فراشًا كان أو غيره‏.‏

وقد اختلف العلماء فى اختيارهم بعض ما يصلى عليه دون غيره، فروى عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أنه صلى على عبقرى وهى الطنفسة، وعن على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس أنهم صلوا على المسوح، وصلى ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء، والنخعى، والحسن على طنفسة‏.‏

وصلى قيس بن عبادة على لِبْدِ دابة، وقال الثورى‏:‏ يصلى على البساط والطنفسة واللِّبْد، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وروى عن ابن مسعود أنه لا يسجد إلا على الأرض، وعن عروة مثله، وكرهت طائفة الصلاة إلا على الأرض أو نباتها، روى ذلك عن جابر بن زيد وقال‏:‏ أكره الصلاة على كل شىء من الحيوان، وأستحب الصلاة على كل شىء من نبات الأرض، وهو قول مجاهد، وقال قتادة‏:‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ الصلاة على الطنفسة محدث، وقاله ابن سيرين أيضًا، وقال مالك فى بساط الصوف والشعر‏:‏ إذا وضع المصلى جبهته ويديه على الأرض فلا أرى بالقيام عليها بأسًا، وعن عطاء مثله‏.‏

وقال مغيرة‏:‏ قلت لإبراهيم حين ذكر كراهية الصلاة على الطنفسة‏:‏ إن أبا وائل يصلى عليها، قال‏:‏ أما إنه خير منى‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء ومعلوم أن اعتراضها بين يديه أشدّ من مرورها‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏ورجلاى فى قبلته فإذا سجد غمزنى‏)‏، فيه دليل على أن الملامسة باليد لا تنقض الطهارة؛ لأن الأصل فى الرِّجْل أن تكون بلا حائل، وكذلك اليد حتى يثبت الحائل، وزعم الشافعى أن غمز رسول الله لها كان على ثوب وهو بعيد؛ لأنه يقول‏:‏ إن الملامسة تنقض الوضوء وإن لم تكن معها لذة إذا أفضى بيده إلى جسم امرأته، وقد تقدم اختلافهم فى الملامسة فأغنى عن إعادته‏.‏

وقول عائشة‏:‏ ‏(‏والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح‏)‏، يدل أنه إذْ حدثت بهذا الحديث كانت المصابيح فى بيوتهم؛ لأن الله فتح عليهم الدنيا بعده صلى الله عليه وسلم فوسعوا على أنفسهم حين وسع الله عليهم‏.‏

باب السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ‏.‏

- فيه‏:‏ أنس‏:‏ ‏(‏كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ‏)‏‏.‏

واختلف العلماء فى السجود على الثوب من شدة الحر والبرد، فرخص فى ذلك عمر ابن الخطاب، وعطاء، وطاوس، والنخعى، والشعبى، والحسن، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، وقال الشافعى‏:‏ لا يجزئه السجود على الجبهة ودونها ثوب إلا أن يكون جريحًا، ورخص فى وضع اليدين على الثوب من شدة الحرِّ والبرد‏.‏

واختلفوا فى السجود على كور العمامة، فرخص فيه‏:‏ ابنُ أبى أوفى، والحسن، ومكحول، وسعيد بن المسيب، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، وقال مالك‏:‏ أكرهه ويجوز، وقال ابن حبيب‏:‏ هذا فيما خف من طاقاتها، فأما ما كثر فهو كمن لم يسجد، وكره على، وابن عمر، وعبادةُ السجود عليها، وعن النخعى، وابن سيرين، وعبيدة مثله‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يجزئ السجود عليها، وقال أحمد‏:‏ لا يعجبنى إلا فى الحر والبرد، واحتج أصحاب الشافعى‏:‏ بأنه لما لم يقم المسح على العمامة مقام مسح الرأس وجب أن يكون السجود كذلك‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والجواب أن الفرض فى السجود‏:‏ التذلل والخشوع، فيكون العضو على الأرض وهو يحصل بحائل وبغير حائل، على أن اعتبارهم يفسده الرجلين؛ لأنه يسجد عليهما فى اللفافة والمسح عليهما لا يجوز، وقد أجمعوا أنه يجوز السجود على الركبتين والقدمان مستورة بالثياب، وهى بعض الأعضاء التى أمر المصلى بالسجود عليها، فكذلك سائر أعضاء السجود إلا ما أجمعوا عليه من كشف الوجه‏.‏

فإن قالوا‏:‏ لو جوزنا السجود على كور العمامة على حصير لجوزنا الجمع بين بدلين أحدهما الحصير الذى هو بدل الأرض والآخر العمامة التى هى بدل الجبهة ولا يصح الجمع بين بدلين فى موضع، ألا ترى أن التيمم بدل الماء ومسح الخفين بدل الرجلين، ولا يجوز الجمع بينهما، قيل‏:‏ هذا ساقط لأننا لا نقول‏:‏ إن الحصير بدل من الأرض، وإن العمامة بدل من الجبهة، بل هو مخير إن شاء باشر بجبهته الأرض، وإن شاء بحائل على جبهته وعلى الأرض، والمسح على الخفين هو مخير فيه أيضًا إن شاء مسح، وإن شاء غسل كالسجود، وليس التيمم كذلك وليس بدلاً، وكل حائل جاز السجود عليه منفصلاً جاز متصلاً، دليله‏:‏ الركبتان والقدمان‏.‏

وأجمع الفقهاء أنه يجوز السجود على اليدين فى الثياب، وإنما كره ذلك ابن عمر، وسالم، وبعض التابعين، وسيأتى بعض هذا المعنى فى باب‏:‏ لا يكف شعرًا ولا ثوبًا فى الصلاة بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ‏:‏ ‏(‏أنه رَأَى رَجُلاً لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلا سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ‏:‏ مَا صَلَّيْتَ، قَالَ‏:‏ وَأَحْسِبُهُ، قَالَ‏:‏ لَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ما صليت‏)‏، يعنى صلاة كاملة، ونفى عنه العمل؛ لقلة التجويد فيه، كما تقول للصانع إذا لم يجود‏:‏ ما صنعت شيئًا، يريدون الكمال، ومثله قول الرسول للذى لم يحسن الصلاة‏:‏ ‏(‏ارجع فصل فإنك لم تصل‏)‏، وإنما نقص من صلاته الطمأنينة فى الركوع والسجود وهى من كمال الصلاة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لو متَّ متَّ على غير سنة محمد‏)‏، يدل أن الطمأنينة سنة، وسيأتى تمام هذا المعنى فى أبواب الركوع والسجود‏.‏